الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

رسالة الحركة السلفية من اجل الاصلاح

الفريضة الغائبة عند السلفيين
بسم الله الرحمن الرحيم
الفَرِيْضَةُ الغَائِبَةُ عِنْدَ السَّلَفِيِّيْن

(1)
تمهيد
إن مَن تصدى ليكتب في نقد الذات لا يجد لذة البتّة في هذا النوع من الكتابة، إذْ أنه بمثابة من يُقطّع نفسه بالمقاريض، ويعرّض نفسه لعَذْل القريب وشماتة البعيد، ومع هذا فلا يكفي أن ننتقد الذات ونستبين معايبها مرة أو مرات، بل لا بد أن يتتابع حتى يصل الناقد إلى وصف المبالِغ في النقد كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) في تفسير الألوسي: وعن الراغب "أنه سبحانه نبه بلفظ القوّامين على أن مراعاة العدالة مرة أو مرتين لا تكفي بل يجب أن تكون على الدوام، فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن مستمرة دائمة، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلاً أي لا ينبغي أن يطلق فيه ذلك" أهـ ، فَسَهْلٌ علينا أن نمارس نقد الآخرين، بل إنه عند غير المخلصين مُستطاب لأن نقد الغير يقتضي تزكية النفس، إلا أن الاستمرار في مخادعة النفس خيانة لا يرضاها غيور وصادق مع نفسه وذويه، فنحن الذين نعلّم الناس ألاّ كمال إلا لله، ولا عصمة إلا لنبي، ونحن الذين نلقّن الناس أن كلا يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن الذين نحارب المذهبية والتقليد والتعصب الأعمى، وندعو إلا اتباع الدليل ورفعه فوق كل الاعتبارات، فلا أقل من أن نسير على هذا المَهْيَعِ مع أنفسنا إذا تبادر لنا أن ثمة خطأ حصل في أدائنا لرسالة الإسلام. فمنهجنا في مجمله معصوم لأن أصوله مستمدة من نصوص الكتاب والسنة، ولكن بعض التفاصيل التي ألزقت بالمنهج وليست منه، أو بعض التصرفات والاجتهادات التي ظنها البعض من صميم المنهج وليست هي به تحتاج أن نجري علها مراجعات صادقة لتنقية المنهج من هذه الإلصاقات والإدراجات حتى نحافظ على نقاء منهجنا ونصاعة أصوله.
ولو أننا استحضرنا جهود سلفنا الصالح في تنقية الشريعة من البهرج والزائف، وكم بذلوا ليحافظوا على تواتر النص القرآني، واستفاضة النص النبوي، وكم بذل المجددون ليجعلوا هذا الدين غَضَّا طَرِيَّاً كما أُنزل لاستيقنّا أن ما سنقوم به من عملية مكاشفة مع الذات ومناصحة للنفس هي جُهد المُقِلّ نَبْذُلُهُ تَأَثُّمَاً ونقر بالتقصير ووجود الهَنَاتِ والعَثَرَات.
المراجعات على المنهج السلفي
إننا نحتاج إلى هذه المراجعات للفصل بين ما هو منصوص المنهج وما هو مُجتَهَد فيه، فالكثير ممن نصب نفسه حاكما على النشاط الإنساني يربط بين الفكرة ومشخصاتها، أو بين المبدأ ومن ينتسب إليه، أو بين العقيدة ومن يدعيها ! فحينما نتحدث عن الفلسفة فليست هي على الدوام سقراط أو أرسطو أو أفلاطون أو حتى الفارابي وابن رشد. وحينما نتكلم عن المذهب الشافعي فليس هو ما صححه الرافعي والنووي بالضرورة، كما أن اعتمادات ابن مفلح والمرداوي ليس هو بالتأكيد مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل. وليست الصوفية بالضرورة هي ما فعله البدوي حين صعد سطح المسجد وكشف عن سوءته وبال على الناس – على نحو ما ورد في بعض الكتب !
وعلى مستوى الحركات الإسلامية نجد هذا العرف ذائعا شائعا، فلو لُمْتَ حركيا على تسويغه منطق السلم مع الأمريكان في العراق وفي أفغانستان لبادرك أن هذا اجتهاد شخصي لا يمثل القادة والرؤوس، ولو تعجّبتَ من عبارة قائلهم: إنه لا يكفّر النصارى؛ لقال إن هذا لا ينتمي لنا تنظيما وإن كان ينتسب لنا فكرا وتنظيرا! ولئن جئتهم بقارعة من الرؤوس والقادة لقالوا : إنه لا يمثل الخط الأصيل لحركتنا !
ولن تجد هذا يختلف كثيرا عند السلفيين، فلو استنكرتَ ركون أحد رموزهم لبعض الظلمة من السلاطين لبادرك متعصبي المنهج أن تيك الرموز لا تمثل المنهج السلفي، ولو استقبحتَ مسلك رمز آخر لكثرة طعونه في إخوانه بزعم المحافظة على نقاوة المنهج سارعك من يتبرؤ من عاديته بأن ذلك الرمز ليس هو المتحدث الرسمي باسم السلفية.
إن كثيرا منا قد ارْتسم في ذهنه تصورا خاصا للمنهج وحاكم الناس إليه، فإذا ما تعارض ما في الخارج مع ما في الذهن تبرأ من هذا الخارج للمحافظة على مُقدَّسات الأذهان!
وفي مجال الفكر الإنساني أو ما يحتف بالوحي المعصوم من تفسيرات واجتهادات بني البشر تظهر لنا آراء عديدة ومذاهب شتى كلٌّ منها يدّعى وَصْلاً بالمنهج الصحيح، فتعدّدت تبعا لذلك نماذج المناهج حتى نرى في المنهج شيئا وضده، ورأيا ونقيضه، وهذا كله مَرَدُّه إلى أن أصحاب تلك المناهج لا يُجْرُوْنَ أَيَّةَ مراجعات يحررون فيها صحيح المنهج من سقيمه وأصيله من بهرجه ومنصوصه من مفهومه.
والمنهج السلفي شأنُه شأنُ غيرِه من المناهج، منه ما هو مِنْ منصوص الشرع، فهذا الجزء معصوم لا يجوز نقضُه بحال، ومنه ما هو من اجتهاد أهل العلم في قضايا كلية أو نَوَازِلَ جُزئية، فهذا شأنه التَّمْحِيص والرد إلى الكتاب والسنة، وقضايا المنهج السلفي التي تحتاج إلى مراجعات ليست بالكثيرة التي يَصْعُبُ حَصْرُها، كما أن قضية المراجعات حول المنهج السلفي ليست حديثةً وليدةً، بل تعاقب على ممارسة هذه المراجعات ثُلَّةٌ من أَصْفِيَاء المنهج وأَنْقِيَاؤُه على مَرِّ العصور، قالوا قَوْلَةَ الحق ولم يخافوا في ذلك لَوْمَةَ لائم،، نبّهوا ونصحوا وحذّروا فكانت لهم يَدٌ على أصحاب المنهج السلفي لا ينكرها أحد، ومما يجب تسجيله أن كثيرا من السلفيين خاصِّهم وعامِّهم يتجاوب مع مثل هذه المراجعات، ولا يتعصب لشيخه أو إمامه، بل إنَّ نُضْجَ الجمهور الأغلب من السلفيين بدا واضحا في كثير من القضايا والنوازل التي أَلَمَّتْ بأمتنا حيثُ صِرْنَا نسمع منهم: أن الإمام الفلاني أخطأ في هذه المسألة وتلك، ونحن لا نقلد هذا الإمام ولكن نحترمه، وفي كثير من مسائل المنهج تجد التَّطَارُحَ في الآراء وتَبَادُلَ النقد بالأدلة سِمَةً واضحةً لدى السلفيين، وإن اعترى نقاشهم بعض الحِدّة، إلا أنه يبقى علامة فارقة يمكن تمييز السلفيين بها.
روافد الموقف السلفي من السياسة
بَيْدَ أنَّ أغلب السلفيين يجتمعون على رأي واحد لو أنكَ انتقدتَ رموزهم بأنهم لا ينشطون لسياسة الإنسان والعمران والاجتماع وإصلاح الواقع وتغييره عبر نقد الأنظمة المخالفة للشرع ومواجهة الحكام بأخطائهم ومعايبهم بشرطه المعتبر، فأغلبهم يعتبر هذا مَنقبة تميزهم عن غيرهم! ويتواطأ معهم منتقدوهم في هذا المثلب.
ويتناقل الكثير من السلفيين عبارة: مِنَ السياسة تَرْكُ السياسة؛ كأنها حكمة ماضية ضَلَّ مَنْ تَنَكَّبَها.
ولو أننا استثنينا بعض التجمعات السلفية في بعض الدول الإسلامية والتي سلكت طريقة السياسة كاملة وهي المشاركة في انتخابات المجالس التشريعية التي تَنْتَهِجُ الديمقراطية فإننا نستطيع أن نحكم على أغلب السلفيين أنهم يرون العُزلة التي تحدّث عنها بعض السلف إذا فسد أهل الزمان. تلك العزلة التي تبلورت عند سلفنا الصالح حول مفهوم عدم مخالطة الدنيويين والعكوف على أمر الآخرة، ثم تطورت عند الصوفية لتكون عزلة بين أهل الآخرة وبعضهم في صورة تشبه رهبانية النصارى والبوذيين، ثم انصهرت هذه الأفكار عند بعض المتأخرين في نظرية المفاصلة الشعورية التي أقرت بضرورة المشاركة الجسمانية في مجتمع الناس ، ولكنها أوجبت كفران العشير الفاجر وهجران مجامع الإثم التي تحادّ الشريعة، فهذه في الحقيقة هي روافد الموقف السلفي الصارم من السياسة.
المآخذ !
لا يشفع لمذهب ترك السياسة كل تلك المناحي الفكرية، فلا العزلة كانت محل إجماع عند السلف ولا هو بالصالح للقياس عليه لأن حال الناس الأعم كان مقاربا لمنصوصات الشريعة، وسطوة الأحكام الإسلامية ظاهرة، فلم يخش القائلون بالعزلة من مأثم خذلان الشريعة والقيام بأعبائها في مجتمعاتهم وعمرانهم.
ولم تكن الرهبنة الصوفية محل رضا أئمة السنة والجماعة إذْ كان الصوفية على غُلُوٍّ واضح في تزكية النفس على حساب فساد المجتمع، وجُفُوٍّ بَيِّنٍ في البحث عن هُوِيَّةِ الذات عن البحث في هوية الأمة بأسرها!
كما لم يكن مذهب المفاصلة الشعورية بالمُوَائِمِ لمَفَاصِل منهج أهل السنة والجماعة، لأنه أَلْزَمَ أصحابَه توصيف آحاد وجماعات الأمة بما يستدعى مفارقةً لمناشط المجتمع فوقعوا في غُلُوّ التكفير ثم مَزَالِقِ التَّبْرِيْرِ. أما ما يَتَّكِيءُ عليه البعض: أن في مُعَافَسَةِ السياسة إقراراً بالنظام الديمقراطي وركوناً للمجالس الشركية والندية؛ فما عادت تجدي في مقام النظر مع فكرةٍ تدعو إلى دخول تلك المجالس لنقضها واستبدال غيرها بها، وليس المشاركون لهذا العمل في نزهة ترفيهية حتى نحذرهم من الوقوع في مثل تلك المزالق، لأن المفترض أن هؤلاء يغامرون بأنفسهم وأرواحهم ومستقبلهم لأجل مواجهةٍ حادة مع سَدَنَةِ هذه النُّظُم وكَهَنَتِهَا، فلا يليق أن نورد عليهم مثل هذه التحذيرات التي يَرِدُ مثلُها على أي وظيفة في الدولة. عدا هذه الحزم الفكرية لا يوجد نموذج فكري سلفي على مَرِّ التاريخ يشفع لمذهب ترك السياسة.
فمنذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحتى قيام الخلافة كان للرموز السلفية دور في المعترك السياسي نصيبا مفروضا. فهؤلاء الخلفاء الراشدون وهم نُقاوة جيل السلف جعلوا تنصيب الخليفة مقدَّما على كثير من الأولويات، وهذا عصر المُلك العاضّ لم ينعزل أئمة السنة في كهوف النسيان أو يعتزلوا المجتمع في مجالس العلم، بل كانوا ينظّرون للسياسة والعمران والاجتماع، فصنّفوا في طرائق الحكم ومناهج الإدارة وفنون الاقتصاد وتراكيب القضاء، وفي عهود الملك الجبري كان القضاء والإفتاء هو الذي يُضْفِي الشرعية على أي نظام حكم، حتى في عصور الضعف كان العلماءُ مَحَطَّ أنظار الحكام والمحكومين لما لهم من سَطْوَةٍ في توجيه العامة والخاصة في أمور الدولة كافة، فكم من حرب قادها العلماء وكم من ملوك عَزَلوا وكم من وزراء أقالوا وكم من مناصب تولوها لِدَرْءِ غَائِلَةِ الظالمين وفرض سلطان الشريعة، ولئن ابتغى فيهم الظالمون العنتَ انتفضوا لهم وزَمْجَرُوا بِغَضْبَاتِ الحق في وجوه الجائرين وجهروا بحكم الله غير هَيّابِين، هذا وغيرُه لو أردتَ ضَرْبَ الأمثلة عليه فَلَنْ تَعْدَمَ فيه سِفْرا يروي غليل الظامئين لأُنْمُوْذَج السلف الصالح في ولوج مُعْتَرَكِ السياسة ولكنك لو بحثتَ في الزاعمين سلوك طريقتهم في عصرنا فستجد تلك النماذج كالكبريت الأحمر!



لفريضة الغائبة عند السلفيين
(2)

الاغترار ببعض النوافل عن أداء الفريضة
وليس يُجْدِي في رد هذا الاستدلال على أن منهجَ السلف هو ضرورةُ الخوضِ في مُعْتَرَكِ السياسة وأمور الاجتماع والعمران ومناصحة الحكام: أن يَزعم زَاعِمٌ أن السلفيين في هذا العصر يخوضون في السياسة والاجتماع والعمران عن طريق تأليف الكتب وتكثيف الدروس والندوات والمؤتمرات حال كون أغلب الكتب التي يؤلفها السلفيون تنظّر للعقائد والمبادئ ولا تناقش الواقع فضلا أن تقترح له علاجا عمليا، ويُدرّس السلفيون كتب السلف ولكنهم لا يستطيعون التعرض للواقع المشخّص، ويقيمون الندوات ولكنهم لا يستطيعون مخاطبة الجماهير فيما يعلمون أنه من صميم معاناتهم.
وَشَدَّمَا حَيَّرَني فَهْمُ بعض السلفيين لمعنى السياسة والاجتماع والعمران، إذْ كلما وردت هذه القضية في نقاش مع السلفيين انحازوا لفهم واحد تجاه القضية واستشهادٍ مُشْتَرَكٍ بمفرداتها، ألا وهو فشل الإسلاميين في دخول البرلمان! هل حقا يَعِيْ السلفيون أن السياسة هي دخول البرلمان فحسب، ودخول البرلمان هو السياسة؟ هل يعي السلفيون فعلا أن الاجتماع الذين نقصده هو القواعد الاجتماعية والتاريخية التي تحدث عنها ابن خلدون وغيره فقط؟ وهل يقصد السلفيون فعلا ما يقولون حينما يظنون العمران هو البناء والتقدم الصناعي لا غير؟ ستكون حجتهم إذا في ترك السياسة أن البرلمان مجلس تشريعي كالند لله في حاكميته، وأن الاجتماع والعمران أمور دنيوية لا يتوقف عليها صلاح الدنيا والدين بالضرورة، وستكون حجتهم أيضا في ترك السياسة والاجتماع والعمران أن من خاض في تلك الأمور لم يرجع بعد تَطْوَافٍ إلا بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ، وكل ذلك مردُّه أن الكثير منا معاشر السلفيين لم يفهم المقصود من السياسة والاجتماع والعمران، وهي أمور مذكورة في القرآن والسنة وفهم السلف وتطبيقاتهم.
والطريف أن بعض مشايخنا السلفيين يُعظّم كتاب غياث الأمم للجويني رحمه الله الذي نص فيه على وظائف العلماء عند خلو البلاد عن إمام يحافظ على حوزة الدين وينص على أنه "إذا خلت البلاد عن خليفة قائم للشرع بحقوقه فعلماء البلاد هم ولاة العباد" إلا أن هؤلاء المشايخ لا يرون مقارعة الأنظمة ومواجهتها بظلمهم وجورهم ويرون السكوت عن القضايا المصيرية التي تموج بها مجتمعاتنا مثل قضية التوريث وموالاة الغرب الكافر وحصار غزة وهدم الأقصى وإن تكلموا فتَطْوافا حول الحِمَى، ويظن بعضهم أن استمرار الدعوة دليل على صحة اختيارهم وصواب اجتهادهم..!
فقه السلف وسياسة السلف
والفقه الذي نحتاجه في توصيف واقعنا ثم الحكم عليه نوعان وسياسة التعامل معه أيضا نوعان كما يقول ابن القيم في الطرق الحكمية: "فِقْهٌ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الْكُلِّيَّةِ ، وَفِقْهٌ فِي نَفْسِ الْوَاقِعِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ ، يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ ، وَالْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ .ثُمَّ يُطَابِقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَيُعْطِي الْوَاقِعَ حُكْمَهُ مِنْ الْوَاجِبِ ، وَلَا يَجْعَلُ الْوَاجِبَ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ . وَمَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَاطِّلَاعٌ عَلَى كَمَالَاتِهَا وَتَضَمُّنِهَا لِغَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ، وَمَجِيئِهَا بِغَايَةِ الْعَدْلِ ، الَّذِي يَسَعُ الْخَلَائِقَ ، وَأَنَّهُ لَا عَدْلَ فَوْقَ عَدْلِهَا ، وَلَا مَصْلَحَةَ فَوْقَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَصَالِحِ: تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ السِّيَاسَةَ الْعَادِلَةَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا ، وَفَرْعٌ مِنْ فُرُوعِهَا ، وَأَنَّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِمَقَاصِدِهَا وَوَضْعِهَا وَحَسُنَ فَهْمُهُ فِيهَا : لَمْ يَحْتَجْ مَعَهَا إلَى سِيَاسَةِ غَيْرِهَا أَلْبَتَّةَ . فَإِنَّ السِّيَاسَةَ نَوْعَانِ: سِيَاسَةٌ ظَالِمَةٌ فَالشَّرِيعَةُ تُحَرِّمُهَا ، وَسِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنْ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ ، فَهِيَ مِنْ الشَّرِيعَةِ ، عَلِمَهَا مَنْ عَلِمَهَا ، وَجَهِلَهَا مَنْ جَهِلَهَا أهـ كلام ابن القيم.
وقد غلط أناس في قصر تسمية ما يقوم به أعداء الشرع من طرائق الحكم سياسةً، بل السياسة هي فعل كل ما فيه صلاح الناس، يقول ابن عقيل في الفنون (نقلا عن ابن القيم) : السِّيَاسَةُ مَا كَانَ فِعْلًا يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ ، فَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك : "إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ" أَيْ لَمْ يُخَالِفْ مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ: فَصَحِيحٌ. وَإِنْ أَرَدْت: لَا سِيَاسَةَ إلَّا مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ: فَغَلَطٌ، وَتَغْلِيطٌ لِلصَّحَابَةِ فَقَدْ جَرَى مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالتَّمْثِيلِ مَا لَا يَجْحَدُهُ عَالِمٌ بِالسُّنَنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا تَحْرِيقُ عُثْمَانَ الْمَصَاحِفَ. فَإِنَّهُ كَانَ رَأْيًا اعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَتَحْرِيقُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الزَّنَادِقَةَ فِي الْأَخَادِيدِ وَقَالَ:
لَمَّا رَأَيْت الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا… أَجَّجْت نَارِي وَدَعَوْت قَنْبَرًا
وَنَفْيُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِنَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ.أهـ ثم عقب ابن القيم على هذا الكلام قائلا: وَهَذَا مَوْضِعُ مَزَلَّةِ أَقْدَامٍ ، وَمَضَلَّةِ أَفْهَامٍ ، وَهُوَ مَقَامٌ ضَنْكٌ ، وَمُعْتَرَكٌ صَعْبٌ، فَرَّطَ فِيهِ طَائِفَةٌ، فَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَضَيَّعُوا الْحُقُوقَ، وَجَرَّءُوا أَهْلَ الْفُجُورِ عَلَى الْفَسَادِ، وَجَعَلُوا الشَّرِيعَةَ قَاصِرَةً لَا تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، مُحْتَاجَةً إلَى غَيْرِهَا، وَسَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ طُرُقًا صَحِيحَةً مِنْ طُرُقِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالتَّنْفِيذِ لَهُ، وَعَطَّلُوهَا، مَعَ عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ غَيْرِهِمْ قَطْعًا أَنَّهَا حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، ظَنًّا مِنْهُمْ مُنَافَاتِهَا لِقَوَاعِد الشَّرْعِ.أهـ
ويرى ابن تيمية أنه يجب على المسلمين أن يسعوا جاهدين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدر المُستَطَاع، وإن عجز بعض الأمراء عن بعض أمور الشرع لم يسقط عنهم باقيها ولا منها باقيهم، قال رحمه الله: "وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ إمَامٌ وَاحِدٌ وَالْبَاقُونَ نُوَّابُهُ فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْأُمَّةَ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ لِمَعْصِيَةِ مِنْ بَعْضِهَا وَعَجْزٍ مِنْ الْبَاقِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَكَانَ لَهَا عِدَّةُ أَئِمَّةٍ : لَكَانَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إمَامٍ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَيَسْتَوْفِيَ الْحُقُوقَ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ يَنْفُذ مِنْ أَحْكَامِهِمْ مَا يَنْفُذ مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ شَارَكُوا الْإِمَارَةَ وَصَارُوا أَحْزَابًا لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ حِزْبٍ فِعْلُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ طَاعَتِهِمْ فَهَذَا عِنْدَ تَفَرُّقِ الْأُمَرَاءِ وَتَعَدُّدِهِمْ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا؛ لَكِنْ طَاعَتَهُمْ لِلْأَمِيرِ الْكَبِيرِ لَيْسَتْ طَاعَةً تَامَّةً ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا إذَا أُسْقِطَ عَنْهُ إلْزَامُهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ الْقِيَامُ بِذَلِكَ ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمُوا ذَلِكَ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ فُرِضَ عَجْزُ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ عَنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ أَوْ إضَاعَتِهِ لِذَلِكَ: لَكَانَ ذَلِكَ الْفَرْضُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ إلَّا السُّلْطَانُ وَنُوَّابُهُ، أي إذَا كَانُوا قَادِرِينَ فَاعِلِينَ بِالْعَدْلِ، كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ إنَّمَا هُوَ الْعَادِلُ الْقَادِرُ، فَإِذَا كَانَ مُضَيِّعًا لِأَمْوَالِ الْيَتَامَى؛ أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا: لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ حِفْظِهَا بِدُونِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا كَانَ مُضَيِّعًا لِلْحُدُودِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا لَمْ يَجِبْ تَفْوِيضُهَا إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ إقَامَتِهَا بِدُونِهِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ تُقَامُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ. فَمَتَى أَمْكَنَ إقَامَتُهَا مِنْ أَمِيرٍ لَمْ يُحْتَجْ إلَى اثْنَيْنِ وَمَتَى لَمْ يَقُمْ إلَّا بِعَدَدِ وَمِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ أُقِيمَتْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي إقَامَتِهَا فَسَادٌ يَزِيدُ عَلَى إضَاعَتِهَا فَإِنَّهَا مِنْ "بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ" فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ وُلَاةِ الْأَمْرِ أَوْ الرَّعِيَّةِ مَا يَزِيدُ عَلَى إضَاعَتِهَا لَمْ يُدْفَعْ فَسَادٌ بِأَفْسَدَ مِنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" اهـ.
فهذه نصوص الأئمة في الفقه الذي نحتاجه للتعامل مع واقعنا المعقد، والمقصود بالسياسة الشرعية التي لنا استعمالها في معالجة المشكلات التي لم يرد في شأنها نص خاص، وكيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث تتحقق المقاصد الشرعية المطلوبة.
التغيير ينبغي أن يكون من داخل النظام وليس من خارجه
وبهذ التقريرات يتضح لنا المسلك الاجتهادي الذي اخْتَطَّه العلماء في هذه المضائق، وبه تطمئن قلوبنا إلى أن اجتهادات العلماء المعاصرين في تغيير الواقع المعاصر جديرة بالاحترام وإن لم تكن رائجة عند الجمهور، ومِن ذلك من يَرى أن التغيير يجب أن يكون من الداخل وليس من الخارج.
إن اقتراح المخرج من مأزق تنحية الشريعة الذي تعيشه أمتنا ليس عسيرا، فنحن إزاء الأنظمة التي تنحّي الشرع بل تحاربه إما أن نَنْبِذ إليها كل عهد ونخرج عليها بالسلاح وهذا مما لم يختلف عليه أهل السنة والجماعة إذا اقتضه ضوابط المصلحة والمفسدة، فهذا إصلاح من الخارج، أو أن نخالط هذه الأنظمة وهذه المجتمعات ونسالمها ثم نصلحها من الداخل. أو أن نعتزل هذه المجتمعات اعتزالا تاما لما ورد في سنن أبي داود وصححه الألباني: يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ.
وليس من السوي أن نكون جزءا من هذا النظام ندفع له الضرائب(بزعم الضرورة)ونستصدر كل وثائقنا تحت رعايته وضمن كفالة القوانين التي شرعتها تلك المجالس (التي ندعوها شركية) ونعمل في الكيانات الاقتصادية التي تغذي هذه الأنظمة وتنميها ونستهلك إعلام هذا النظام ونستفيد من خدماته التعليمية والصحية والاجتماعية والوظيفية بل ونروج لديننا بإذنه ونفاوضه فيما ينبغي أن نقوله أو لا يجوز أن نقوله بشأن ديننا وأصول ملتنا، ولكننا نرفض أن نتدخل أي تدخل مفيد في إصلاح هذه الأنظمة لتكون أقرب ما تكون لشرع الله، فلا نحن أنكرنا وأصلحنا الواقع ولا هجرناه وتركنا الركون إليه.
ولو أننا بحثنا في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا كل النماذج القريبةِ حالُها من حالنا تتدخل بصورة واضحة في نظام الحكم والسياسة والاجتماع والعمران.



الفريضة الغائبة عند السلفيين
(3)




منهج الأنبياء هو الجهر بكلمة الحق بين ظهراني أقوامهم ومناصحة حكامهم
وأفضل مثال هو منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله. فأغلبهم توجه بدعوته للملوك والرؤساء والوجهاء كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ومنهم من تدخل في سياسة النظام الحاكم وقَبِلَ تَقَلُّد المناصب الرفيعة فيه كيوسف عليه السلام.
وكان أتباع الأنبياء مثلهم في هذا المسلك، فهذا مؤمن آل فرعون ذكّر قومه بالقضايا الكبرى و منها الحاكمية وذكرهم بحقوق الرب ورغّبهم في سلوك سبيل الرشاد وحذرهم من الشرك ومظاهره التي انتشرت في عهد الفراعنة. ولا شك أن يوسف عليه السلام ومؤمن آل فرعون كانا جزءا من النظام واختارا أن يسلكا طريق الإصلاح من الداخل.
بل إن الحالة الوحيدة في القرآن التي يئس فيها نبيٌّ من الإصلاح الداخلي فانصرف عن أداء واجب الدعوة دون إذن من الله تعالى فلَحِقَتْهُ المَلامَة وكانت محنتُه عبرةً لكل داعٍ إلى الله، وكان اعترافه بظلم نفسه درسا لكل مقصر، ثم حاز جائزته، إذ أُلهم التوبة وكُلِّف بدعوة مائة ألف أو يزيدون فقام بهذه المهمة خير قيام وكتب الله له القبول لحُسْنِ طَوِيَّتِه وجَمِيْلِ طَلَبِهِ.
لقد كان النبي محمدا صلى الله عليه وسلم من صَلِيْبَةِ قريش، وكانت قُرَشِيّتُه وطِيْبُ أَرُوْمَتِهِ مما امتن الله به على أمة الإسلام، وكانت دعوته صلى الله عليه وسلم تتضمن قَلْبَ نظام الحكم القائم على الأحساب والأنساب ونظام القبيلة القائم على العُبِّيَّةِ الجاهلية ونظام الاقتصاد القائم على الربا وكل نُظُمِ المجتمع التي تستمد مشروعيتها من القوة فحسب، فتحرّفت الشرائع السابقة وصُدّ عن سبيل الله للمحافظة على مكاسب هذا النظام، جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليهدم هذا كله ويقيم على أنقاضه نظام الإسلام، فهل يمكن أن نقول إن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه سياسة ولا اجتماع ولا عمران؟
لقد انتقد النبي صلى الله عليه وسلم كل تفاصيل الجاهلية، نظامَها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل شملتْ دعوته نقضَ الأمور الدقيقة في النظام الاجتماعي الجاهلي مثل الفخر بالأحساب والإقسام بالآباء وصنع الطعام في جنازة الميت، أما حقوق الإنسان وما جاء به الإسلام من حفظ الدين النفس والمال والعقل والعرض فحدث عن ذلك ولا حرج، فقد كانت أحكام الإسلام ثورة في ذلك العصر وفي كل عصر، وفي اعتقادي أن انتشار الإسلام وقبول الناس له وانقلاب الحضارات وتنكرها لماضيها لتنصهر في الإسلام إنما كان بسبب عصرانيته واختراقه الزمان والمكان.
ولقد كان الإصلاح السياسي مقصودا أعظم في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم سواء في العهد المكي أو المدني، ففي العهد المكي كان الإصلاح من داخل المجتمع الجاهلي، وكانت الدعوة تتغلغل في مفاصل النظام الجاهلي، رويدا رويدا، حتى ضاق طواغيت الجاهلية وأئمة الكفر بانتشار الإسلام فمكروا به وكادوا له، فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ليبدأ بُعدٌ جديد من الإصلاح، ولكن من الخارج، إلا أن الإصلاح في المدينة ما زال على حاله الأول وهو التغيير من الداخل في مجتمع تعددت أديانه وتضاربت مصالحه وكان مطلوبا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوجد المعادلة التي تُؤْذِنُ بظهور هذا الدين وعُلُوّ أحكامه.
لقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم دار الندوة (برلمان قريش) وخاطب وُجَهاءها وأعيانَها، وخطّط لِلُقيا قبائل العرب في موسم الحج حتى يَعْرِضَ عليهم الإسلام، وحَرَّضَ حسانَ بن ثابت لينصر الإسلام بشعره، وأمر زيد بن ثابت أن يتعلم السُّريانية (اللغة السائدة عند ملوك الأرض آنذاك) ليتواصل مع ملوك الدول ورؤساء الدنيا، وحشد كل طاقات صحابته ليكونوا جنودا في طلائع الفتح المبين، حتى إذا أتاه اليقين، وانطلقت كتائب الحق تفتح بلاد الدنيا؛ لم يحتاجوا إلى وقت كبير لتكوين الكوادر التي ستدير البلاد التي فُتحت باقتدار واحتراف، فدل على أن عملية الإصلاح التي مارسها النبي صلى الله عليه وسلم كانت مبكرة جدا، بل يدل على أن كل المراحل الدعوية التي مر بها الإسلام كانت إصلاحا بوجه ما.
ولأجل التفريط في هذا الأصل وهو مخالطة الناس وتحصيل الاجتماع بكل مفاصل الأمة وسياسة قضايا الأمة بما يحقق أعلى مصلحة وأقل مفسدة ممكنة؛ وقعت جماعات الأمة في الفرقة والاختلاف كما هو مشاهد في ساحتنا الدعوية، فقد انصرفنا عن تحقيق الاجتماع ولم نسع لوحدة الأمة فعاقبنا الله بنقيضها وهو الفرقة، قال تعالى: { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فَأَخْبَرَ أَنَّ نِسْيَانَهُمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ - وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِبَعْضِ مَا أُمِرُوا بِهِ - كَانَ سَبَبًا لِإِغْرَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ ، وَهَكَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي أَهْلِ مِلَّتِنَا مِثْلَمَا نَجِدُهُ بَيْنَ الطَّوَائِفِ الْمُتَنَازِعَةِ فِي أُصُولِ دِينِهَا ، وَكَثِيرٍ مِنْ فُرُوعِهِ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَمِثْلَمَا نَجِدُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَبَيْنَ الْعُبّادِ ؛ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الموسوية أَوْ العيسوية حَتَّى يَبْقَى فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ: لَيْسَتْ الْأُخْرَى عَلَى شَيْءٍ. كَمَا نَجِدُ الْمُتَفَقِّهَ الْمُتَمَسِّكَ مِنْ الدِّينِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَ الْمُتَمَسِّكَ مِنْهُ بِأَعْمَالِ بَاطِنَةٍ كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفِي طَرِيقَةَ الْآخَرِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ، أَوْ يُعْرِضُ عَنْهُ إعْرَاضَ مَنْ لَا يَعُدُّهُ مِنْ الدِّينِ؛ فَتَقَعُ بَيْنَهُمَا الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ. وَذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَهَارَةِ الْقَلْبِ، وَأَمَرَ بِطَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَكِلَا الطَّهَارَتَيْنِ مِنْ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَوْجَبَهُ. قَالَ تَعَالَى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) وَقَالَ: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) وَقَالَ: (إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) وَقَالَ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) وَقَالَ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) وقال: (إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) وَقَالَ: (إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). فَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ، إنَّمَا هِمَّتُهُ طَهَارَة الْبَدَنِ فَقَطْ، وَيَزِيدُ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا. وَيَتْرُكُ مِنْ طَهَارَةِ الْقَلْبِ مَا أُمِرَ بِهِ؛ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا، وَلَا يَفْهَمُ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَّا ذَلِكَ. وَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ إنَّمَا هَمَّتْهُ طِهَارَةُ الْقَلْبِ فَقَطْ؛ حَتَّى يَزِيدَ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا؛ وَيَتْرُكُ مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ مَا أُمِرَ بِهِ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا . فَالْأَوَّلُونَ يَخْرُجُونَ إلَى الْوَسْوَسَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي كَثْرَةِ صَبِّ الْمَاءِ، وَتَنْجِيسِ مَا لَيْسَ بِنَجِسِ، وَاجْتِنَابِ مَا لَا يُشْرَعُ اجْتِنَابُهُ مَعَ اشْتِمَالِ قُلُوبِهِمْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالْغِلِّ لِإِخْوَانِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ مُشَابَهَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْيَهُودِ. وَالْآخَرُونَ يَخْرُجُونَ إلَى الْغَفْلَةِ الْمَذْمُومَةِ، فَيُبَالِغُونَ فِي سَلَامَةِ الْبَاطِنِ حَتَّى يَجْعَلُونَ الْجَهْلَ بِمَا تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ الشَّرِّ - الَّذِي يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ - مِنْ سَلَامَةِ الْبَاطِنِ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ سَلَامَةِ الْبَاطِنِ مِنْ إرَادَةِ الشَّرِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَبَيْنَ سَلَامَةِ الْقَلْبِ مِنْ مَعْرِفَةِ الشَّرِّ الْمَعْرِفَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا ثُمَّ مَعَ هَذَا الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ قَدْ لَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَاتِ، وَيُقِيمُونَ الطِّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى. وَتَقَعُ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِسَبَبِ تَرْكِ حَظٍّ مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَالْبَغْيِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ إمَّا تَفْرِيطًا وَتَضْيِيعًا لِلْحَقِّ، وَإِمَّا عُدْوَانًا وَفِعْلًا لِلظُّلْمِ. وَالْبَغْيُ تَارَةً يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَارَةً يَكُونُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ وَلِهَذَا قَالَ: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ بَغَتْ عَلَى الْأُخْرَى، فَلَمْ تَعْرِفْ حَقَّهَا الَّذِي بِأَيْدِيهَا وَلَمْ تَكُفَّ عَنْ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا. وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) وَقَالَ تَعَالَى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) . وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى فِي مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) وَقَالَ: (إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وَقَالَ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْبُدُ إلَهًا يَهْوَاهُ . كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ) وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). فَظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ جَمْعُ الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أَمَرَ بِهِ بَاطِنًا، وَظَاهِرًا. وَسَبَبُ الْفُرْقَةِ: تَرْكُ حَظٍّ مِمَّا أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ، وَالْبَغْيُ بَيْنَهُمْ. وَنَتِيجَةُ الْجَمَاعَةِ: رَحْمَةُ اللَّهِ، وَرِضْوَانُهُ، وَصَلَوَاتُهُ، وَسَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيَاضُ الْوُجُوهِ. وَنَتِيجَةُ الْفُرْقَةِ: عَذَابُ اللَّهِ وَلَعْنَتُهُ وَسَوَادُ الْوُجُوهِ وَبَرَاءَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ. وَهَذَا أَحَدُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، فَإِنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا كَانُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ بِذَلِكَ مَرْحُومِينَ، فَلَا تَكُونُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ: بِفِعْلِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ مِنْ اعْتِقَادٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ أَوْ الْعَمَلُ الَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ، وَلَا سَبَبًا لِرَحْمَتِهِ .اهـ
ونحن مأمورون بالبحث عن ذلك الحظِّ الذي ذُكِّرنا به ونسيناه أو تركناه ولم نقم به، أي أننا مأمورون بمعرفة وجه تقصيرنا في تطبيق أوامر الله تعالى ونواهيه، ومتى ما عرفناه وجب علينا تداركه والقيام به وإتمامه على الوجه الذي يُرضي الله تعالى.
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم تأكيد على ثلاثة أمور مهمة عليها جماع صلاح الأفراد والمجتمعات وهي: إخلاص العمل لله، ومناصحة الحكام، ولزوم جماعة المسلمين، ففي الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ.(رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه الألباني) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ (رواه مالك في الموطأ وأحمد في المسند ومسلم في صحيحه) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ ؛ إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُقُوقَ قِسْمَانِ : حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ ، فَحَقُّ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، كَمَا جَاءَ لَفْظُهُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ ؛ وَهَذَا مَعْنَى إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ . وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ : خَاصٌّ وَعَامٌّ ؛ أَمَّا الْخَاصُّ فَمِثْلُ بِرِّ كُلِّ إنْسَانٍ وَالِدَيْهِ ، وَحَقِّ زَوْجَتِهِ وَجَارِهِ ؛ فَهَذِهِ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يَخْلُو عَنْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ مَصْلَحَتَهَا خَاصَّةٌ فَرْدِيَّةٌ . وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْعَامَّةُ فَالنَّاسُ نَوْعَانِ : رُعَاةٌ وَرَعِيَّةٌ ؛ فَحُقُوقُ الرُّعَاةِ مُنَاصَحَتُهُمْ ؛ وَحُقُوقُ الرَّعِيَّةِ لُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُمْ لَا تَتِمُّ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ ، وَهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ ؛ بَلْ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ؛ فَهَذِهِ الْخِصَالُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ . وَقَدْ جَاءَتْ مُفَسَّرَةً فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ تَمِيمٍ الداري قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } . فَالنَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ تَدْخُلُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ هِيَ مُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ ، فَإِنَّ لُزُومَ جَمَاعَتِهِمْ هِيَ نَصِيحَتُهُمْ الْعَامَّةُ ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ الْخَاصَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ، فَهَذِهِ يُمْكِنُ بَعْضُهَا وَيَتَعَذَّرُ اسْتِيعَابُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ أهـ

مخالطة المجتمعات وإصلاحها سنة ماضية محكمة
فمخالطة الناس لإصلاح مجتمعاتهم وأطْرِها على الحق سنة ماضية وفضيلة محكمة لم يثبت فيها نسخ أو تخصيص أو تقييد، فعن عبد الله بن عمر عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ. رواه أحمد في المسند وابن ماجة والترمذي وفيه: المسلم الذي يخالط الناس …الخ، والحديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله.
وليس معنى الأمر النبوي مجرد المخالطة والسكوت على أذاهم وعدم التعرض لنُظُمهم بالنقد والنصح والتغيير، فمثل هذا لا يقال فيه : المسلم ، أو المؤمن ، الذي يفيد إدخال الألف واللام فيه: كمال الوصف ، فكأن الحديث: المسلم الكامل الذي يخالط الناس..الخ، أو المؤمن الكامل الذي يخالط الناس..الخ، والمسلم الكامل أو المؤمن الكامل لا يكون كاملا بسكوته عن المنكر ورضوخه للوضع القائم فكماله دليل على خيريته وخيرية المسلم من خيرية أمته التي أخرجت للناس لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن جواز الغِيْبَة في النصيحة: " وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ [ كَمَا ] فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ { فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ لَمَّا اسْتَشَارَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَنْكِحُ ؟ وَقَالَتْ : إنَّهُ خَطَبَنِي مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ فَقَالَ : أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ } وَرُوِيَ : { لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ } فَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ هَذَا فَقِيرٌ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ حَقِّك وَهَذَا يُؤْذِيك بِالضَّرْبِ . وَكَانَ هَذَا نُصْحًا لَهَا - وَإِنْ تَضَمَّنَ ذِكْرَ عَيْبِ الْخَاطِبِ . وَفِي مَعْنَى هَذَا نُصْحُ الرَّجُلِ فِيمَنْ يُعَامِلُهُ وَمَنْ يُوَكِّلُهُ وَيُوَصِّي إلَيْهِ وَمَنْ يَسْتَشْهِدُهُ ؛ بَلْ وَمَنْ يَتَحَاكَمُ إلَيْهِ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ؛ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ فَكَيْفَ بِالنُّصْحِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ وَالشُّهُودِ وَالْعُمَّالِ : أَهْلِ الدِّيوَانِ وَغَيْرِهِمْ ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ النُّصْحَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ }".أهـ



الفريضة الغائبة عند السلفيين

(4)


هل ترى من فطور ؟
فارجع البصر إلى حالنا أيها الذي يزعم انتسابا لهذا الدين، وانتماء لذلك الجيل الذي حمل الإسلام إلى العالم فحكم به المشرقَ والمغربَ، وصاغ للناس معايير الحضارة الأخلاقية الخالدة التي لم يوجد لها مثيل على ظهر هذه البسيطة.
يُحارَب الإسلام عيانا جهارا، تتمالأ الأنظمة على تقويض أحكامه عروة عروة، ويجتمع الشرق والغرب على تعقب حملة هذا الدين لإكراههم على قبول نموذج الغرب في الحكم والاقتصاد والاجتماع، فماذا حرّكنا وماذا جيّشنا وماذا أعددنا لكل هذا ؟
إن السلفيين الذين رجّحوا خيار الجهاد المسلّح والمواجهة مع كل تلك الأنظمة أصدق لهجة مع الواقع، ونحن وإن كنا نخالفهم في تقديرهم للمصلحة والمفسدة إلا أننا نعتبر السكوتَ عن تلك الأنظمة وعدمَ مدافعتها (ولو بالطرق السلمية) ركونا للظالمين واستكانةً للفاجرين وسكوتا عن منكر الكافرين.
إن الجمهرة الغالبة من السلفيين قد استقر اختيارهم واجتهادهم على نموذج الإصلاح السلمي التدريجي، واعتبار المواجهة والصدام استثناء لا يُلجَأُ إليه إلا بعد استكمال الشروط الكونية والشرعية، وإذا لم تكتمل تلك الشروط فخيار الإصلاح السلمي يظل شاهد العصر علينا جميعا، وعملية الإصلاح من الداخل ستظل الخيار الأوحد لأغلب أو كل التيارات السلفية، وواجبنا أن نتأمل في أدائنا الإصلاحي، هل هناك شيء عملناه ولم يُجْدِ؟ أم أن هناك ما نستطيع أن نفعله ولكننا لم نقم به؟
فالسلفيون بعلمائهم ودعاتهم يستطيعون أن يصلحوا من الواقع بما هو أكثر من مجرد إلقاء الدروس والمحاضرات، والعملية التربوية التي تشتمل على منهج دقيق لشتى العلوم لابد أن تتناول كيفية تكوين الكادر الفعّال في مجتمعه، القادر على تَحَمُّلِ تَبِعَةِ القيادة والإصلاح، وليس قُصَارَاهُ أن يُخرّج أجيالا من الملتحين والمنقبات لكنهم أعجز ما يكونون عن قيادة مُجَرَّد مظاهرة تُلوَى لها الأعناق وتُنصِت لها الآذان فأين الإصلاح السياسي وترشيد الأداء الجهادي العالمي وأين الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي إذاً ؟
هل من الحكمة بمكان أن يرى السلفيون قضية التوريث يتحدث فيها كل إنسان في أرض مصر، ولا يبرز للسلفيين صوت إلا ذلك الصوت الشاذ من صفوف السلفيين الداعي لبيعة مبارك حتى يموت بزعم أنه لا دليل على توقيت مدة الإمارة.؟!
وهل يعقل أن تُفتح أول جامعة في المملكة العربية السعودية لإعداد جيل علماني تكنوقراطي يقود البلاد في المستقبل على الطراز الغربي الصرف فلا ينطق أحد بنقد ومن نَطق أُقصي فيتوارى الجميع وراء حجاب طاعة ولي الأمر ويُرَوّج لجامعة تعتمد الاختلاط بين الجنسين نِظاماً في خطبة جمعة أمام بيت الله المشرّف .؟!
وهل يُقبل أن تُشوه معالم المجتمع المغربي كله ليصطبغ بالسحنة الفرنسية ولا زال هناك من يروّجُ ويُسَمِّيْ مهندسَ هذا التشويه أميراً للمؤمنين؟!
وهل نرى سائغا حديثَ علمائنا السلفيين عن كل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة في مشكلات الأردن ويغيب صوتهم عن نقد القيادة السياسية ودورها الوثيق في تثبيت الكيان الصهيوني في المنطقة ؟!
وكيف يَحِقُّ لِسَلَفِيٍّ يحمل أدلة الحق في جوانحه أن يمتدح نظام الحكم في الجزائر ويناشد المسلحين النزول من الجبال ثم يغض الطرف عن جرائم هذا النظام وأعظمها مخاصمة الشريعة والوقوف ضدها ؟!
وكيف نُمرِّرُ امتداح النظام التونسي مع مع عرف من بطشه وجوره ومحاربته لكل مظاهر التدين والالتزام؟ وقس على ذلك ما قاله البعض في رأس النظام الليبي والسوري وغيره من الأنظمة التي تضاد الشرع وتناهض الإسلام وشعائره.
وإنني لأعجب ممن يؤلف الأسفار الكبار في التحذير من غرمائه وخُصَمَائِه ومُخَالِفِيه في الفكر والاجتهاد وإن كانوا من صفوة المؤمنين المشاركين له في خندق واحد ضد الكافرين المعتدين، ثم هو لا ينطق بكلمة واحدة في أولئك الأعداء الذين حلوا بديار المسلمين وأقاموا قواعدَ عسكرية تنطلقُ منها طائراتُهم لقتل المسلمين واحتلال بلادهم ونهب ثرواتهم..!
لماذا لا نتواصى ونتعاون في أداء هذه الفريضة الغائبة ؟
ولو عجز علماء بلدٍ عن انتقاد أوضاع ذلك البلد فهل عجز غيرهم في البلاد الأخرى عن القيام بواجب النصح لأئمة المسلمين وعامتهم ؟ أم أن الحدود السياسية التي فرقت الأمة فرّقت أيضا بين استحقاقات النصيحة ومسئولياتها ؟
فصرنا نتعجب من كويتي ينتقد الحملة الصليبية العالمية، وصرنا ننكر على الروسي المسلم إذا تألم لحال إخوانه في القدس، ونشكك في نوايا التركي إذا تحرك لنصرة المسلمين في غزة، بل صرنا نسمع السلفيين يستشهدون بالمثل العربي(أهل مكة أدرى بشعابها) في حالات صدور فتوى لعالم من بلد في شئون بلد آخر! وكأن هؤلاء السلفين نسوا قول الله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) ونسوا قول النبي صلى الله عليه وسلم(كما في صحيح مسلم): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
ولو كنا نعتبر تصريح شيخ الأزهر السابق سيد طنطاوي أن فرنسا لها الحق في إصدار قوانين تناسب مجتمعاتها(إشارةً لقانون حظر النقاب والحجاب) غير مستغرب من المرجعية الأزهرية فلا بد أن يكون مستغربا ومُستهجنا بل ومُستَقبَحا أن يكون فينا معاشر السلفيين من يفتي بوجوب طاعة بول بريمر الحاكم الأمريكي في العراق إبان احتلاله، وأن تصدر من بعض مرجعياتنا فتوى بعدم قنوات النوازل إلا بإذن ولي الأمر مع أن النوازل التي صاحبت نازلة قنوت النوازل هي حرب أمريكا على أفغانستان وباكستان وحرب اليهود للمسلمين في فلسطين، ومحاولات هدم الأقصى، وحصار غزة، وأسر المسلمين الأبرياء في جوانتنامو، دع عنك ما تقارفه الأنظمة في بلاد الإسلام من ظلم وقهر واضطهاد، فلربما التبس الأمر على بعض المرجعيات في كفر المحادين للشريعة لعدم توافر بعض الأسباب والشروط أو انتفاء بعض الموانع، لكن لا موانع تمنع البتة من الجهر بكلمة الحق في وجوه قادة الحملة الصليبية ومن عاونهم! أو في وجوه قادة النظام العالمي الحديث ووكلائه الذين باتوا سُرّاقاً رسميين لثروات المسلمين في كل أرض يطؤونها.
إن الاستمرار في البحث عن المعاذير لإسقاط الدور السياسي عن السلفيين (والذي يقتضي المواجهة مع مصالح الأنظمة الجائرة) ورّط الكثيرين منهم في مدح تلك الأنظمة والسكوت عن مظالمها، بل ورّطهم في الوقوع في تناقضات سياسية حادة لا يستطيعون الفرار من إلحاحها على ضمير المنهج بحثا عن جواب شافٍ.
ففي حين تستمرئ بعض مرجعياتنا السلفية أن تبايع حسني مبارك على الرئاسة وتعلن تأييدها الكامل لولايته ولولاية ابنه إلا أننا رأيناهم يتحاشون تأييد الدولة التركية في مواقفها ضد الكيان الصهيوني خشية أن يظن الناس أن هذا تزكية للنظام التركي العلماني!
إن فتاوى علماء السلفية تلقى الاحترام والتقدير من المسلمين في كل دول العالم، والمرجعيات العلمية السلفية صاروا نجوم المجتمع بلا منازع، ولكن أداءنا في مواجهة الظلم ورتابة الجور تكاد تنعدم، فهل نعتبر الجهر بكلمة الحق عند السلطان الجائر من الإصلاح السلمي أم من جنس المواجهة والاصطدام الذي نتحاشاه؟!
لو كنا سلفيين حقا فلنا في جيل السلف قدوة وأسوة، فسيد التابعين سعيد بن المسيِّب استعلن بمخالفته للنظام السياسي الأموي، ولا يُعرف عن أحد من جيل السلف أنه كان بوقا لنظام جائر فضلا أن يكون كافرا محاربا للدين، ولا زال السلف يحذرون من الدخول على السلاطين والركون إليهم أو التعاون معهم في قليل الأمر أو كثيره، وكل ذلك للمحافظة على مصداقيتهم في النقد وصدق لهجتهم في الإصلاح الشامل.
وفي تراجم علماء السلف بل علماء الأمة قاطبة نجد المبرزين منهم والمذكورين بكل عبارات الثناء والتقدير والإجلال هم مَن كانت لهم مواقف حادة وصارمة مع سلاطين زمانهم، وأغلب محن العلماء في حياتهم كانت الثمن المباشر لمواقفهم مع الملوك ومناصحتهم للظالمين من أهل السلطة، وجهرهم بكلمة الحق لديهم.




الفريضة الغائبة عند السلفيين

(5)


لماذا لا يثمر مجهودنا التربوي في القيام بهذه الفريضة ؟
وإذا كان اختيار بعض مشايخ السلفية هو تقديم الدور التربوي العلمي على أي نشاط آخر، فهل يمكن أن نقول: إن دورنا التربوي هذا هو نفسه الدور السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الإصلاح ؟ وإذا كنا ننتقد بعض مثالب الجاهلية المعاصرة بمقالاتنا وخطبنا ودروسنا فما هو التأثير الميداني الذي سيلمسه الناس من هذا الدور؟
إن العملية التربوية التي نمارسها خلال جيل كامل لهي من الدقة والتعقيد بما ينبغي أن يفرز لنا جيلا إصلاحيا كاملا يمثل نموذجا للمجتمع الصالح، مجتمع لا يعتمد على الربا، له إعلامه، صحفه، مجلاته، كياناته الاجتماعية، بل له نظام سياسي يدير هذا الجيل، لكننا نرى هذا الجيل ما زال يعاني نفس الأمراض التي كان يعانيها جيله السابق، ويجاهد ذات العيوب التي انتشرت في المرحلة التربوية المبكرة!
إننا نتحدث عن دور إصلاحي شامل، يخوض المعترك السياسي بكل صوره ومستوياته، يقدم كوادر إدارية قادرة على حل مشكلات المزارعين، وطاقات تقنية تستطيع اقتراح حلول للتخلف التقني الذي تعانيه أمتنا، ونتحدث عن دور إعلامي يكون بديلا عن الإعلام الغربي الذي ما زلنا نتلقى منه أخبار نكبات أمتنا للأسف الشديد، إننا نتحدث عن دور اجتماعي يمتد من دورنا في تماسك الكيان الأسري في أمتنا، وانتهاء بالأبحاث والأنظمة التي تحافظ على السمة الإسلامية لمجتمعاتنا. نتحدث عن دور اقتصادي يسعى لتحقيق كفاية اقتصادية عبر الترويج للأنظمة الاقتصادية الإسلامية وإقامة الكيانات التي تقدم خدماتها التجارية للناس وفق الأحكام الشرعية.
إن هذه الأدوار لا بد أن يصاحبها حشد كامل لطاقاتنا نحو هذه الحركة الإصلاحية الشاملة، لا يتخلف عنها مؤمن بضرورة تطبيق الشريعة في مناحي الحياة، فما قيمة اكتظاظ مساجدنا بطلبة العلم المتخصصين في كل المعارف إلا أننا نعجز عن تأليف مصنف واحد يتحدث عن النكبة الاقتصادية العالمية ودور الإسلام في إنقاذ العالم منها!
إن مقارنة بسيطة بين جيل السلف(الذي كانت تحكمه أنظمة إسلامية) سيُظهِر لنا الاختلاف البيّن مع جيلنا( الذي تحكمه أنظمة غير إسلامية)، فالفريضة التي قام بها سلف الأمة في الإصلاح تبعا لأنبياء الله وجهرهم بالحق بين ظهراني الناس وأطرهم على معاقد الشريعة باتت غائبة تماما عن الأداء السلفي.
الأسلوب
أما فيما يتعلق بكيفية أداء هذه الفريضة الغائبة ؟ فالجواب: هو بالتعلم، كشأن أي فريضة يؤديها المسلم، فنرجع إلى نصوص الشرع المطهر وعمل السلف الصالح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصحة الحكام وممارسة السياسة والاجتماع والعمران، فما وجب أداءه علنا أديناه علنا، وما لزم فعله سرا أقمناه سرا، كل بحسبه، وما استدعى فيه الرفق واللين قمنا به بلا مِنّة ولا أذى، ما استدعى الغلظة والتقريع فعلناه غير هيابين، وما استحق التقديم قدمناه وما استحق التأخير أخرناه، وما لزم التمهل فيه تمهلنا وما استوجب التعجيل عجلناه، ومعرفة مراتب الأحكام ومقاصد الشريعة وضرورياتها وحاجياتها وتحسينياتها ومتمماتها وشروطها وما يعتبر وما لا يُعتبر في هذا كله يجب أن يكون مُستَحْضَرا في أداء هذه الفريضة، ومن أهم ما يجب استحضاره في بداية الأمر كيفية بعث هذه الفريضة وإحيائها بين المسلمين ليمارسوا الدور الذي مارسوه سلفهم، ويكون بعثا إسلاميا ينصلح به حال الحاكم والمحكوم، وتنصلح به العلاقة بين الشعوب وقادتها ويعرف كل ذي حق حقه، وتُرفع المظالم، وتُنال الحقوق، ويُبسط العدل، ويُرفع الجور، ويعز الإسلام، وتُحترم الشريعة، ويكون الدين كله لله.
أين الخلل..؟
نعم.. الخطأ في جيلنا، حصل تقصير في عملياتنا التربوية، لقد حصل هذا مع كل الجماعات الإسلامية، ونحن جزء منها، أو إفراز من إفرازاتها، بل نحن عنصر بشري يعتريه ما يعتري كل البشر من أخطاء ومعايب وقبائح، فلماذا نترفع عن الحديث عن ذلك أو نعتبره خطا أحمر لا نسمح لأحد أن يتجاوزه؟
نعم .. السلفيون جزء من كيان هذه النهضة الإسلامية، بل هم عنصر مهم في عناصرها الكثيرة، لأن منهجم هو الأنقى والأقرب لنصوص الوحي المعصوم، ونماذجهم الإصلاحية على مر العصور تُعتبر خلاصة الحركات الإصلاحية والتجديدية التي حافظت على نقاء الإسلام، وقدمت للإنسانية خدمة جليلة بمحاربة كل محاولات تحريف هذا الدين الخالد، فكأن الله استخدم هذه الفئة دون غيرها لحفظ الدين.
ومع ذلك فالسلفيون يخطئون كما يُخطئ غيرهم، ويجب أن يكونوا هم الأقدر على نقد ذواتهم وردها لجادة الحق أكثر من غيرهم، وأن يكونوا أجدر بتقديم القدوة في نقد الذات وإصلاحها قبل إصلاح الآخرين.
أن أهمية المراجعات السلفية كون هذا المنهج منوط به أن يهيمن على كل المناهج وأن يُنصَب معيارا لها ومسبارا لصوابها وخطئها، فأهل السنة والجماعة هم نقاوة المسلمين، ولو كانت النقاوة كالنخالة فكيف سيصير حالة البقية الباقية في الأمة..؟
والسلفيون في عالمنا كلهم مَدْعوّون لواحدة: أن يقوموا لله مثنى وفرادا ثم يتفكروا، أولو كان النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانينا تكون لنا المعذرة عنده..؟ أولو كان أميرنا عمر بن الخطاب أتاركنا هو لقعودنا وركوننا إلى هذه الدنيا..؟ أولو كان بيننا خليفة كعمر بن عبد العزيز تُراه يتأخر في بدأ عملية الإصلاح الشاملة لكل مفاصل الدولة الإسلامية..؟ أولو كان سلطان العلماء العز بن عبد السلام حيا بيننا يرضى بالإقامة في أرض يُسب فيها شرع الله ولا يتكلم..؟ أولو كان شيخ الإسلام ابن تيمية متحركا فينا، أتاركنا هو لمعاذير المصلحة والمفسدة التي تجعلنا نسكت ونريد من غيرنا أن يسكت ..؟؟!!
إن السلفيين مدعوّون للمشاركة في هذه المراجعة التاريخية وتقديم تقرير محاسبة للأمة عن دورهم في إصلاح مجتمعاتهم حال كونهم ينتسبون لخير الناس وينتمون لمنهج خير القرون، وحُقّ للأمة أن تساءلهم بكل حزم: هل أديتم فريضة الله أيها السلفيون .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق